الكاتبة المبدعة ياسمين يسري

في أفق الكلمات تُشرقُ صورتها كفجرٍ مفاجئٍ أضاء سماءَ الإبداع.. إنها ياسمين يسري، المرأةُ التي تحولت عزيمتُها إلى زهرةٍ نادرةٍ تنبتُ بين صخورِ الصعاب. في هذا المقالِ، سنغوصُ في خبايا مسيرتها المتفردة، ونرسمُ من حروفنا لوحاتٍ تحملُ رحيقَ الحلمِ والإصرار.
بذرةُ التمريض ونشوةُ الحلم الأدبيّ.. ولادةُ انقسامٍ داخلي
بين عامي 2017 و2019، كانت ياسمين تنبشُ في كتابِ الحياة قاعاتِ التمريض، تعلّمُ ألمَ المرض وشفاءِ الأجساد، لكنّ أرواحَ المرضى التي تراقبها يوميًا كانت تهمسُ في أذنيها بأن هناك صوتًا آخرَ ينتظرُ أن يندلع.. صوتَ الحرفِ الحرّ. في بيتها الريفيّ، حيث يظن الكثيرونُ أن النجومَ بعيدةٌ جدًا.. ضَمدتْ ظلوع الأحلام الصغيرة التي لا تتوافقُ مع قالب الواقع الجامد. إلا أنها احتفظت في نظراتها بتلك الرغبة المندفعة، وقررت أن تحفرَ بقلمها ممرًا إلى الفجر.
جائحةٌ صنعتْ ثورةً في النفس.. تحوّلٌ من أنسجة الجسد إلى أنسجة الفكر
حين اجتاح العالم فيروسُ كورونا، انطفأت نوافذُ الحياةِ كما ينطفئُ شمعةٌ في رياحٍ قوية. توقفت حياة البشر وآمالُ الممرضين، ووجدت ياسمين نفسها أمامَ مرآةٍ تصفعُها بحقيقةٍ لا يمكن إنكارها: «هل سأبقى أسيرةَ روتينٍ لم أختره، أم سأفتحُ بابًا آخرَ للحرية؟» هنا، استيقظت نيرانُ الحلم الإعلاميّ في صدرها. حولت المخاوف إلى نجومٍ تتلألأ في سماء الفكرة، وقررت أن تكونَ صوتًا يصدحُ بالحقّ، وأن تكتبَ عن الذين لا صوتَ لهم في قاعةِ الصحافة الصاخبة.
حين تصيرُ الكلماتُ سيفًا.. “غموض أنثى” معركةُ الجسد والروح
خرجَ كتابُها الأول «غموض أنثى (ما بين المرأة المصرية والفلسطينية)» أشبهَ بمحاولةٍ استنطاقِ الجراحِ الصامتة. ففيه، تماهت ياسمينُ مع النساء اللواتي يعانين في صمتٍ بين حقولِ الوطنِ الممزّق، ونسجتهنَّ مع إخوانهنَّ المصريات في شمَسٍ واحدة. كانت صفحاتُ الكتابِ معلّقةً بين صرخاتٍ احتواءٍ وكبرياءٍ تمردٍ، حتى طبعُه وصلَ إلى النسخة الرابعة، كما لو أن روحهُ تمدّدتْ لتلامسَ أعماقَ القارئِ وتؤكدَ أن للحرفِ دورًا ثوريًّا لا يقهر.
مدادُ العونِ ومسارُ البذل.. قلبٌ لا يعرف الانغلاق
في فضاءٍ ملآنٍ بالعقولِ الصاعدة، وجدت ياسمينُ نفسها كمنْ يُضيء شمعةً في ظلمةٍ كثيفة. لم تكتفِ بأن تكونَ مجرد كاتبةٍ تقدّمُ نصيحةً هنا وهناك، بل فتحت أبوابَ قلبها وضميرها لكلِّ كاتبٍ أو كاتبةٍ يحلمُون بالظهور. أشرفتْ على إصداراتٍ عدّةٍ، وساعدت الآخرين على تهذيبِ أفكارهم، وتبيّينِ أن قيمةَ النصِّ لا تقاسُ بطوله أو كثافته، بل بقدرتهِ على الانفجارِ في العقل واستنطاقِ المشاعر. هنا يكون الإبداعُ كالسّرِّ الذي لا يُفصح عنه إلا لمن يملكُ قلبًا يرحبُ بالتجدد.
منبرٌ ثقافيٌّ أيقظَهُ شغفُ الحياة.. “هيباتيا” محطةُ حضارةٍ وإشراقٍ
في الثامن من أغسطس 2023، كانت ياسمينُ جسراً يصلُ بين الحدثِ والفكرة. حينما ارتدت ثوبَ الراعي الرسميِّ لمهرجانِ «هيباتيا للثقافة والفنون»، لم تكتفِ فقط بوضع اسمها على لافتةٍ رسمية، بل سلّمت نبضَها لكلِّ حيٍّ يصرخُ باسمِ الفنِّ. كان حضورها حضورَ امرأةٍ رأتْ في الثقافةِ وسيلةً لتغييرِ الوعي، لا مجردَ مهرجانٍ يستقطبُ الزوار. فهي تُدركُ أن شوقَ الجمهورِ إلى الفكرِ والخيالِ يكسرُ جدرانَ الجمود، ويزرعُ بذورَ النهضة في قلوبٍ عطشى.
روايةُ “المتمردة”.. نبضُ التمرّدِ وشعلةُ التحليق
وقبل أن يكتمل فجرُ روايتها الجديدة «المتمردة»، كانت تتردّد في ذهنها صورةُ امرأةٍ لا تقبلُ بما يفرّقها عن ذاتها. تلك روايةٌ مرصوفةٌ بحجارةِ الجرأة، وسفينةٌ تبحر في بحرِ الوعيِ الصارخ. يقالُ إن من يقرأُها سيجدُ انعكاسًا لأحلامه الخاصة، ولصدى خطواته التي لا تنطفئ حتى في الظلام. إنها دعوةٌ لأن نخرقَ القوالبَ المسبقةَ ونحلّقَ بأقلامنا فوق سماءِ التقليد.
أفكارٌ تتوالدُ في خلجاتِ الليل.. سيرةُ ملاذٍ لا ينضب
الليلُ يستكينُ إلا من أفكارِ ياسمين التي تتراقص كنجومٍ تهمسُ للأرضِ بالحكايات. ربما في الصباحِ تجدُ نفسها تتأملُ صفحاتٍ فارغةٍ وتبتسمُ، إذ تذكّرتْ أنّ الكتابةَ ليست هروبًا، بل هي قوسٌ من الضوء يمهدُ الطريق لمن يُريدُ أن يرى. تعملُ اليوم على مشاريعَ صحفيةٍ وأدبيةٍ ترى فيها فرصةً ثانيةً لكلِّ كلمةٍ أرادتْ أن تتفوّقَ على صمتِ الواقع.
ختامٌ على أطيافِ الحروف.. تحيةٌ لمن أسّسَ الجسورَ بين السماءِ والأرض
إذا نظرنا إلى مسيرةِ ياسمين يسري، وجدنا أنها ليستْ مجردُ فصلٍ في كتابٍ عاديّ، بل هي ملحمةٌ تُعلّمنا أن العينَ لا تكفي لرؤيةِ الأفق إذا لم تصاحِبها رغبةٌ لا تعرف المستحيل. في عالمٍ كثرت فيه الضوضاء، اختارت أن يستوطنَ صمتُها قوةٌ لا تهابُ العواصف. فلنحيِّ قلبَ المرأةِ التي صنعتْ من رياحٍ قاسيةٍ أشرعةً للمستقبل، ومن حروفٍ مؤلمةٍ همساتٍ تنشدُ للشمسِ أن تشرقَ في كلِّ صدْرٍ يعشقُ الصباح.
فهذه ياسمين يسري.. زهرةٌ ريفيةٌ استقتْ الماءَ من الأمواجِ، فارتوتْ، ثم أرهفتْ سمعَها لأوتارِ العالمِ كلّه. وبين طياتِ كلامها، نجدُ دعوةً صامتةً لكلِّ مبدعٍ بأن يتركَ وراءه جدارَ الخوف، ويطوّقَ قلبَهُ بالشغف.. لأن الإبداعَ لا ينتظرُ إلا من يجرؤ على المزاحمة في سماءِ المجد.